الجمعة، 8 يوليو 2011

نفق الخوف

نظرت ألي بعينين واجمتين وشفتين ترتجفان
-انا عارفة انك حترجعي من نص الطريق
-انت تعرفي عني كدة برضه؟؟
-لا بس المرة دي غير كل مرة
-متخافيش يا امي ..العمر واحد والرب واحد,اموت شهيدة وتفخري بيا ولا اموت على سريري فحضنك؟؟
-ر..ربنا يرجعك بالسلامة وحبقى اقولك
-هههههه...ايوة كدة ,ان شاء الله راجعة يا امي
وقفت على اعتاب الباب وقبلت امي وابي الذي بدا متماسكا,وخرجت اسرع في خطواتي لالحق بالحافلة,وصلت وهم على مشارف الرحيل
-استنووووووني
-اتأخرتي ليه؟
-منتو عارفين بقى الامهات
-انا مقولتش لامي اساسا مكتش حتسيبني اخرج
-خير ما عملت بس انا حبيت يعرفوا عشان لو حصل واتفقدنا
-وجهة نظر برضو
--يلا يا جماعة حملوا بسرعة.
ركبنا الباص معا ننشد الاغاني الوطنية الحماسية ونتغلب  على الخوف بآيات من الذكر الحكيم تبشر بالنصر وتذكر بتأييد الله للمؤمنين ووحدتنا ربطت على قلوبنا
وفي كل ميل نقطعه نزداد عزما وأملا على اكمال المسير وتطوي الارض بقايا مخاوفنا مع المسير,وكلما نقترب يزداد الترقب ,قضينا يوما وليلة بالحافلة حتى وصلنا الى الحدود,وعند ممر جبلي ضيق كان علينا النزول وانزال الامتعة وعاد السائق بالحافلة وبقينا وحدنا بالصحاري.
70 شابا وفتاة من خيرة شباب الوطن عليهم حمل اطنان المساعدات لاطفال غزة,وليسوا ينسون ما حدث لسفن الحرية لكنهم احتاطوا بالحذر الشديد وبدأوا بتقسيم الامتعة حسب مقدرة كل منهم.
اعطوني بعض الحمولة ,علقوها وربطوها بظهري لكني كنت اطلب وضع المزيد فلازلت اقدر على المسير وان تعبت سأتنازل عن بعض حمولتي لاحدكم فلا تقلقوا.
بدأت رحلتنا الطويلة مع غياهب الانفاق تحت الارض ومع الخوف نعيش لحظات يملأها البسمة والأمل يغطي على شبح الخوف المتربص بنا,فقد رضينا بالهلاك لأجل سلامة آخرين وأطفال لم يحيوا يوما مما حيينا.
مشينا ونسيت اعيننا ضوء الشمس واعتدنا على اضواء المصابيح الخافتة والاضواء المعتمة,حتى اذا انقضت 3 ايام و4 ليالي بدأنا نلمح ضوء الشمس الذي بدا متوهجا يؤذي اعيننا .
وبنهاية اليوم الرابع وصلنا للضفة الاخرى من النفق ولم نكد نصدق انفسنا.
-نحن بالداخل ,في ارضك يا عشق السنين.
لقد هيأت لنا بعض الجمال من بعض الاهالي العالمين بقدومنا ,حملنا عليها الاحمال وكنا نتناوب على ركوبها بين حين واخر وكان الانهاك قد نال منا وان تظاهر كل منا بالتجلد والصمود .
مشينا بها ثلاث ايام لم ادر اين نحن حتى وصلنا الى بعض العمار وفي كل خطوة يتعقبنا الخوف.
-يا جماعة اوعوا حد يغلط ويتكلم مصري,كل واحد يلف شماغه على وشه عشان ملامحه متبانش.
ولمحنا من على بعد نقطة تفتيش للعدو
-يعني هو انت ملقتش سكة غير دي تعدينا منها؟
-يا ذكي ده المكان الآمن الوحيد ,غير كدة عيش مع الالغام انا مش حتحمل مسؤوليتك.
ارتعدت فرائص البعض فنادى فينا القائد بالصمود فالخوف سيفضحنا.
-حنخيم هنا يا جماعة لحد ما يحل الليل
-انت فاكر الليل حيخفينا عن عينهم؟
-اسكتب بس واهدى كدة وشوف اللي حيحصل.
خيمنا وراء بعض التلال وانتظرنا حتى خيم الليل على المكان واخذ المكان يحلو,تملأه الظلمة لولا بعض النجوم المتلألأة قللت من وحشة المكان والحباحب الصغيرة كانت تضئ لنا قليلا,الظلام دامس ويغطي الارض بثوبه الاسود الجميل الذي يبعث على الهيبة والوقار.
-مايكل..جبت اللي قلتلك عليه؟
-طبعا يا باشا انا اقدر امشي من غيرها؟؟
-سامحني يا رب,تعلم اني لم افعل الا في سبيلك وابتغاء وجهك .
اخذ القائد بعض الزجاجات من مايكل وانطلق نحو منطقة الاعداء وقد لف الشماغ على انفه ووجهه ولم يظهر منه سوى عينيه الحادتين الجادتين المتظاهرتين بالبلاهة.
ذهب وكلمهم قليلا ووجدتهم يخرجون النقود ويستلمون الزجاجات فأشار اليهم انه لا يريد النقود,انسحب راجعا إلينا دون ان يشك بأمره احد.
-ايه اللي انت عملته ده يا بني ادم؟
-انت على طول مستعجل كدة؟,اصبر بس وبعدين حتتفرج,وعلى حسابي يا عم مش حاخد حق التذاكر.
انتظرنا حوالي ساعتين ولم يحدث شئ
-ايه يا عم لسة حنستنى كتير ؟ هو العرض حيبدأ امتى بالظبط؟
-بعد نص الليل يا سبع البرومبة ,اصبر بقى شوية
-ادينا صابرين اهوه..اللهم صبرك يا روح.
لم يمر سوى القليل وبدأنا نراهم شربوا الزجاجات وبدأوا بالترنح يمينا وشمالا ومنظرهم يحز على الضحك وقد امسك كل منا بطنه من شدة القهقهة.
امرنا القائد بخفض اصواتنا والا انتبهوا علينا
-يا نهاااري..هو انا كان بيبقى شكلي كدة؟؟..قال مايكل..حبطل اشرب من النهاردة.
-ربنا يشفيك يا مايكل وتحل مشاكلك بالعقل مش من غيره.
أمرنا القائد بالتأهب وربط الامتعة بحبال قوية طرفها بالأمتعة وطرفها بأرجلنا والزحف.
-انا اسحف؟؟انت بتهزر اكيد.
-خلاص روح عند امك او سلم نفسك للعيال السيس اللي هناك دي.
كل هذا وانا اسرح بعيدا وارفق الامتعة واربط الحبال والبس واقيات الجسم استعدادا للزحف ويمر امامي شريط حياتي القصيرة .
اصدقائي الذين اود لو ارى بسمة في عيونهم واهلي الذين لا اود ان ارى دمعة في عيونهم.
فقلت:خلصوا يا جماعة وسيبوا اللك لبعدين.
-صح..يلا يا جماعة احنا مستنيين ايه بالظبط؟؟
الكل عمل بجد منذ هذه اللحظة وانهوا كل شئ قبل الفجر بحوالي ساعتين.
اسرعنا بالزحف بين الشجيرات والنبتات الصغيرة بالثياب المموهة وكنا على بعد لا بأس به من الأعداء حين..
-آآآآآآآآه
شبك "سبع البرومبة" حبله باحدى الشجيرات بالارض فشد قدمه بعصبيته المعتادة فجرح قدمه جرحا بالغا.
حاولنا اسكاته بلا جدوى فهو لا يكف عن الصراخ والتذمر,وضعت له قطعة قماش في فمه واخرى ربط بها قدمه بعصا صغيرة وتحتها بعض الاعشاب الطرية.
-بطل عصبية بقى واهدى شوية,دلوقتي انت مش حتقدر تكمل زحف وانت مصاب فك الحبل من رجلك وانا حربطه فرجلي واسحف بيه.
-بس كدة كتير عليكي اوي.
-انت مالك؟؟ مهو لولا عميلك مكنتش اضطريت,يلا خلصنا.روحو يا جماعة وانا جاية وراكو وحهتم بيه.
-لوحدك؟؟مينفعش نسيبك!
-قلتلكو روحو وانا لو مجتش كملوا انتوا لازم توصلوا الأمانة.
بالاخير اضطروا للرحيل وبدأت انا زحفي الثقيل وحاولت ان أسرع من خطاي لألحق بهم ,انهكني التعب لكني تحملت.
واذا به يصرخ:مش قاااااادر
وضعت اصابعي على بعض النقاط بكاحله المسؤولة عن الشعور بالتعب واعطيته بعضا من طاقتي ,فتألم اولا وشكرني ثانيا.
اكمل المسير وقال:خلاص انا بقيت كويس هاتي عنك.
-اتنيل ..انت قادر تتحرك؟ يا عم اقعد ساكت.الجماعة بعدوا عننا وانت لو متحملتش حلحق بيهم ومش حسأل فيك.
-حتتخلي عني بالسهولة دي؟؟!!
-مش بأيدي بس في ناس مستنياني ويمكن اقدر انقذ 10 اشخاص.اذا روحك  تساوي روح 10 اشخاص يبقى اكيد حضحي بيك.
-انت صح...انا ححاول اكمل وحتغلب على ألمي.
-يلا مفاضلش كتير على ما نعدي منطقة الخطر.
وبآخر النهار كنا ابتعدنا تماما عن منطقة الخطر واستطعنا اللحاق بالزملاء الذين استبطأونا فانتظروا.
مددت يدي لأرفعه فتشبث بها وقال: لقد انقذتي حياتي,مش عشان رجلي ولا لانك حملتي حملي ولا لانك رفضتي تسيبيني لوحدي ,لكن عشان مسمحتيليش ايأس ودبيتي فيا روح الاصرار والتحدي لحد ما عديت الموقف.
ابتسمت بسمة خفيفة باستغراب وتقدمت قليلا.
ظل يعرج طوال الطريق ولا يريحنا من صوته خصوصا بعد ان احملته نصف حمولته ووزعنا الباقي علينا ,فقد كان يعاني صعوبة بالمشي .
استأذنتهم بالاستراحة قليلا وتظاهرت بأني مرهقة ,فذهبت واحتطبت عصا خشبية طويلة وقلمت اطرافها بمطوتي متعددة الاغراض وجعلتها معقوفة من ناحية لتكون مثل اليد واعطيته اياها لتساعده على المشي.
-خد دي وحاول تعتمد على نفسك شوية,محدش فاضيلك صراحة وصوتك اطرشنا عالآآخر.
نظر لي نظر يملأها الغضب الممزوج بالامتنان وتابعنا طريقنا وتقدمت الصفوف وتركته بالمؤخرة بعد ان عهدت برعياته لاحد الشباب من دون ان يظهر ذلك.
اكلمنا المسير حتى المساء ولم ننم هذه الليلة وبحوالي منتصف الليل وصلنا وجهتنا الاولى ونحن نجر اقدامنا جرا.
-محطتنا الاولى’المشفى الميداني بغزة
سأل قائدنا مدير المشفى عن حالة الاطفال.
-للأسف هناك 3 اطفال لقوا حتفهم اثر جراح غائرة وبقي 14 اخرين بين حالات خطيرة واصابات طفيفة.
بدا الوجوم على وجوهنا ولم ندر بانفسنا اذ وقعنا على كراسي المشفى وقد سالت ادمعنا
-ليه ملحقناهمش ليييييه؟
-هوني عليكي..ما كنتوا راح تقدروا تنقذوهم,حالتهم كانت كتير خطيرة وكان متوقع جدا هاد الشي.كمان هاد امر الله وما فينا نعترض عليه.
-ونعم بالله..
-اهم شي انكوا قدرتوا تنقذوا حياة 14 طفل آخرين بين الحياة والموت.
-مهمتنا خلصت هنا يا جماعة الادوية وصلت ولازم نلحقة محطتنا التالية.
واثناء خروجنا رأينا اهالي الاطفال الجرحى وقد حملونا على الاعناق وشكرونا شكرا اندى جبيني.
وصلنا الى مستودع الغذاء وافرغنا حمولتنا هناك وسألنا مدير المستودع كم تكفيهم هذه الكمية فأخبرنا انهم لا يستطيعون الصمود اكثر من ثلاثة اشهر.
وعدناه بمحاولة ترتيب الامر باقصى سرعة واعتذرنا لعدم مقدرتنا ايصال موارد الطاقة فعذرنا لعلمه بصعوبة الطريق وخطر المسير.
لم يتركنا نذهب لان بعض الاهالي ارادو الاحتفال بنا وشكرنا.
-ايوة يا عم تدي باليمين وتاخد بالشمال
-يا عم حرام عليك انا بقالي اكتر من اسبوع مكلتش
-اصبر اسبوع كمان وابقى كل براحتك فبيت امك لما نرجع ان شاء الله,انت ختخلص الاكل اللي بقالنا 10 ايام بنوصل فيه
-خلاص يا عم اديك سديت نفسي
-رجلك عملت ايه دلوقتي؟
-اهي بتوجعني..بتوجعني اوووي..بس مستحمل..اعمل ايه يعني؟؟
-هههههه..مفيش فايدة فيك...لو بطلت تتذمر والله اقلق عليك.
اما انا ..فجلست وحدي اتأمل النجوم السماء الصافية والبيوت الجميلة البسيطة والشوارع اوسعها واضيقها .
لم اشعر بالخوف مع اني باكثر المناطق خطرا على وجه الارض.
وبقيت اتأمل ضحكات الاطفال وعجبت كيف لانسان ان يسلب هذه الابتسامات البريئة ويغتال الطفولة ويسرق الامان من البيوت
وسعدت لاني شاركت برسم هذه البسمة وساهمت في صنع هذه الضحكة الغناء.
لا بد لي ان اهب نفسي لهم فما معنى حياتي ان عشت بين جدران بيتي اتنعم بصنوف النعيم وقد حرم منها هؤلاء الاطفال .
ووجدت طفلا وحيدا يجلس حزينا فتقربت اليه وسالته ما بك؟
فسالت دمعة ساخنة على خديه واستقرت على يدي احرقتني فضممته الى صدري وسألته لما لا يلعب مع الاولاد
-كيف بدي العب معن وخيي تحت التراب؟مين بدو يدافع عني اذا هني قاتلوني؟مين راح يحملني على كتافه لما اوقع؟؟
شعرت بالاختناق بحلقي وتقطعت كلماتي وسألته كم عمرك؟
-9 سنين
-وكم كان عمر اخوك؟
-15 سنة
فقلت له:انت لازم تفرح باخيك
-كيف يعني؟
-هو الآن يتمتع بصنوف النعيم بجوار رب العالمين مع الانبياء والصديقين ويطير بين الجنان كهذا الطائر الحر في السماء وقد تركك هنا وحملك المسؤولية لتستعد حقه يوما ما.
-تفتكري؟
-اكيد..
تهلل وجهه فرحا وقام يمسك بعصا يضرب بها كالفرسان فأخرجت قهقهة وصلت عنان السماء يملأها الألم والأمل.
نمت في مكاني ملأ اجفاني بعد قلق 10 ايام وكلتا عيني اغلقتهما لا احداهما,وشعرت بأمان لم اشعر به مطلقا ورضا عن النفس ليس كمثله رضا.
صحونا باليوم التالي وجهزنا انفسنا للرحيل وكل منا يحمل فخرا شديدا وطاقة تهزم كل آلام الأجساد.
ذهبت للاطمئنان على صاحبنا الجريح فركلت جرحه بقدمي فتأوه بشدة وضحكنا جميعا وهو ينظر الينا غاضبا.
ومشينا نطوي الارض شوقا وهذه المرة من دون حوف لأن الأمانة قد وصلت بسلام واتفقنا مع بعض شباب غزة الشجعان على اقامة تجهيزات لتسهيل ايصال موارد الطاقة الى القطاع وان يلقونا بمنتصف الطريق كي تسهل عملية انتقال المؤن والادوية.
عبرنا النفق واصبحنا بداخل سيناء ,نزلت وقبلت التراب وكذا فعل زملائي وحمدنا الله وكبرنا,ونظرت للنفق نظرة اخيرة ببسمة خفيفة وقلت "انك لست نفق الخوف..بل انت....نفق الحياة"
تــــــــــــــــــــمــــــــــــــــــــــــــــــت